قصة كل شيء – بقلم محمد ناصر

قصة كل شيء - بقلم محمد ناصر
السعي لفهم أعمق للكون، فهمًا خاليًا من الخرافات. هو الشغل الشاغل للفيزياء منذ الظهور الفعلي للمنهج العلمي.
تبدأ قصة كل شيء عند عالم الرياضيات والفيزياء الإنجليزي “إسحق نيوتن”، معظمنا يعلم قصة نيوتن والتفاحة. وقد أعاد نيوتن سبب سقوط التفاحة بتلك الطريقة إلى ما أطلق عليه “الجاذبية” وسُمي قانونه بـ”قانون الجذب العام”.
حسنًا ظهر مفهوم الجاذبية لأول مرة في كتابه “الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية” الذي نشره في العام 1687. ونشر فى نفس الكتاب “القوانين الثلاثة للحركة” وهي:

  1. القانون الأول: إذا كانت محصلة القوى المؤثرة على جسم منعدمة فإن الجسم ثابت، أو يسير بسرعة منتظمة.
  2. القانون الثاني: القوة المؤثرة على جسم ذا كتلة ثابتة = الكتلة × العجلة . أي كلما زادت القوة المؤثرة زادت العجلة وبالتالي زادت السرعة، فكلما كانت قوة مُحرك السيارة أكبر تكون السرعة أكبر.
  3. القانون الثالث: لكل فعل رد فعل مساوي له في المقدار ومضاد له فى الإتجاه.
تفاحة نيوتن و سر الجاذبية
تفاحة نيوتن و سر الجاذبية

كان هذا معجزة آنذاك، فمن العجيب أن نعلم المسار الدقيق لأي جسم بمجرد معرفة نقطة انطلاقه و سرعته الابتدائية. فتح ذلك طريقًا لفهمٍ أفضل لكوننا، فمعادلات نيوتن تطبق على كل شيء حولنا.

ظن معظم المجتمع العلمي أنه قد توصل إلى “نظرية كل شيء” فبرغم شذوذ مدار عطارد عن قوانين نيوتن حيث أن مداره ليس إهليجيًا مغلقًا تمامًا و إنما ينحرف قليلا عن ذلك، تم اعتبار قوانين نيوتن و تفسيره للجاذبية غير قابل للطعن.
شذوذ مدار عطارد عن قوانين نيوتن
شذوذ مدار عطارد عن قوانين نيوتن

لكن كان لنيوتن سره الصغير ” فهو لم يدري حقًا كيف تؤدي الجاذبية عملها ذلك ؟! و قوانيه لا تعمل في حالة السرعات العالية، و حالات الجاذبية الهائلة. فكان الدليل واضحًا رغم التغاضي عنه. فقانون نيوتن العام لم يكن عامًا، و لم يكن قانوناً!
بعد قرابة القرنين من الزمن، أتى أينشتاين لانقاذ الموقف بنظريته “النسبية العامة”. والتي أتت بفهم أعمق للجاذبية، ففكرته الأساسية جاءت غريبة جدا، فالمكان بأبعاده الثلاثة “الطول – العرض – العمق” و الزمان، و اللذان يبدوان كشيئين منفصلين هما في الواقع شيء واحد.
نعم فقد وحد الزمان و المكان بشيء واحد رباعي الأبعاد يُسمى “نسيج الزمكان” و وصفه بأنه أكبر السرعات المعروفة تحدث إضطرابا في هذا النسيج. والجاذبية ما هي إلا انحناء تُحدثه الأجسام الثقيلة في نسيج الزمكان.
تحدث الكتلة إنحناءاً في نسيج الزمكان مسببة الجاذبية - نظرية نيوتن
تحدث الكتلة إنحناءاً في نسيج الزمكان مسببة الجاذبية – نظرية نيوتن
ولكن سرعان ما أدرك الخطر بتصادم نظريته الجديدة مع الأب الروحي للجاذبية “نيوتن”.
فميكانيكا نيوتن تتنبأ بأنه في حالة اختفاء الشمس ستحيد الكواكب في نفس الوقت عن مداراتها. و لكن “النسبية العامة” تُثبت بأنه في حالة حدوث ذلك، ستُحدث اضطرابا “موجة” في نسيج الزمكان و ستبقى الكواكب في مداراتها لفترة –ثمان دقائق تقريبا– حتى تصل إليها الموجة فتحيد. و لكن لأينشتاين أساسه الراسخ فقد استطاع تفسير ما عجزت عنه ميكانيكا نيوتن في تفسير حركة عطارد و أكدت المئات من التجارب بعد ذلك صحة نظريته فأصبح بذلك الشخص الذي غير وجه الفيزياء و نال شهرته الكبيرة.
كان له حلم كبير بالتوحيد بين القوتين المعروفتين آنذاك “الكهرومغناطيسية والجاذبية” في معادلة واحدة أساسية، بعد استطاعة ماكسويل التوحيد بين الكهربية و المغناطيسية في معادلاته الأربعة . استند حلم أينشتاين إلى حقيقة أن موجة الجاذبية تسير بنفس سرعة الضوء في الفراغ والذي يُعد موجة كهرومغناطيسية.
ففي الواقع، الذي منع تفاحة نيوتن من الاندفاع نحو مركز الأرض هي القوة الكهرومغناطيسية الناتجة عن التنافر بين الذرات المكونة لسطح الأرض و جسم التفاحة، فالقوة الكهرومغناطيسية مقدار تأثيرها أكبر بكثير من الجاذبية التي تعمل على الأجسام الكبيرة ويُصبح ضعفها جليًا في الأجسام الصغيرة مثل الذرات، و هنا يأتي الرابط بينهما، أي أنه من الممكن التوحيد بينهما.
و لكن معركة أينشتاين ستكون عنيفة جدا إذا أراد أن يوحد كلتا القوتين ذوات المقادير بالغة الاختلاف في معادلة واحدة. و بالرغم من النجاح الكبير للنسبية العامة فهي لم تكن نظرية كل شيء مثلها مثل قوانين نيوتن، ناقصة و لم تعمل على المدى الذري.
النموذج الذري - نيلز بور
النموذج الذري لنيلز بور

و في عشرينيات القرن الماضي سرقت مجموعة من الفيزيائيين الشباب الضوء من أينشتاين بنظرة أعظم ثورية للكون. و قلبت سعي أينشتاين نحو التوحيد رأسا على عقب، بقيادة الدنماركي نيلز بور تم تحطيم فكرة أن الذرات هي أصغر جزء بالكون؛ والكشف عن عالم غريب دون ذري. إذ تبين أن الذرة تتكون من جسيمات أولية تدور حول كتلة كبيرة تسمى النواة في فراغ ثلاثي الأبعاد. والنواة تتكون من بروتونات و نيوترونات. اتضح أن نظرية أينشتاين و ماكسويل لا عمل لها هنا!.

و تاه الفيزيائيون في عالم الذرة الغريب، و ظل التخبط مسيطراً؛ لعدم وجود أساس يتم الاستناد عليه، حتى نهاية عشرينيات القرن الماضي. نشأت نظرية تعرف بـ”ميكانيكا الكم”. بُنيت على اعتراف الانسان بجهله، فلا وجود للمطلق أو الثابت. لا يوجد بهذا العالم غير الاحتمالات و مع ذلك فكانت قادرة على وصف العالم الذري بدقة شديدة.
وتم اكتشاف قوتين جديدتين “القوة النووية الضعيفة، والقوة النووية القوية” فالقوة النووية القوية هي التي تربط بين البروتونات و النيوترونات داخل النواة ولا تعتمد على الشحنة أو غير ذلك. أما القوة النووية الضعيفة فهي التي تسمح بتحلل النيوترونات إلى بروتونات.
وفي عالم الذرة أصبحت الجاذبية مهملة – نظرًا لمدى صغر الكُتل الذرية – مقارنة بالقوى الثلاثة الأخرى. و كان أول تطبيق للقوة النووية هو القنبلة النووية فالانفجار ينشأ من انطلاق الطاقة الكبيرة عند فصل البروتونات و النيوترونات عن بعضها.
الطاقة الهائلة التي تطلقها القوة النووية القوية
الطاقة الهائلة التي تطلقها القوة النووية 

مع ذلك فهي لا زالت غير مكتملة و لتعارضها مع قوانين الطبيعة المعروفة فلا تكن ميكانيكا الكم “نظرية كل شيء”، أيضًا!

ولأن قوانين الطبيعة يجب أن تُطبَّق في كل شيء، فلو أن ميكانيكا الكم تُطبَّق في كل شيء لها دلائلها و النسبية العامة تُطبَّق في كل شيء و لها دلائلها. فلا بد من وجود نظرية ما تجمعهما، و عند اكتشافها قد تكون الاحتمالية الأكبر لأن تكون هي نظرية كل شيء.
و من المؤكد أن تبدا نقطة التوحيد من “الثقوب السوداء” حيث تنبأت النسبية العامة بوجودها، وهي عبارة عن نجوم كبيرة انضغطت على نفسها مسببة انحناء كبير في نسيج الزمكان و قد رصدت التليسكوبات أجسام مثل هذه في الفضاء، والسؤال هنا: عند دراسة قلب الثقب الأسود، هل سنستخدم النسبية لكون كتلته كبيرة جدا أم ميكانيكا الكم لأن حجمه صغير جدا؟!
إذًا، لا مفر من تطبيقهما معا، و لكونهما غير منسجمتين تماما فقد تؤديان إلى نتائج غير صالحة!
لغز الثقوب السوداء
لغز الثقوب السوداء
وفي ستينيات القرن الماضي، ظهرت نظرية موحدة ترى الكون بعين مختلفة، تشير إلى فكرة أن كل ما بالكون من جسيمات و طاقة ما هي إلا أوتار مهتزة من الطاقة، تسمى “نظرية الأوتار الفائقة”.
ولكن فلنعُد قليلا إلى عصر “النسبية العامة” ففي العام 1919م اقترح عالم رياضيات ألماني مغمور يدعى كلوتزه أن الأبعاد المكانية الثلاثة هي في الحقيقة أربعة أبعاد مكانية ولكننا بطريقة ما لا نرى البعد الرابع.
سيرًا على منوال أينشتاين و محاولة الوصول إلى نظرية موحدة لقوى الطبيعة فيما نسميها بـ”نظرية الحقل الموحد”. فقد حاول كلوتزه وصف القوة الكهرومغناطيسية بأنها انحناء، كما وصف أينشتاين الجاذبية، و لكن في أي وسط يتكون هذا الانحناء؟
وهكذا أتى بفكرة أنه ربما تكون هناك أبعاد اضافية للمكان يحدث بها الانحناء. فإذا أراد وصف قوة اضافية تخيل وجود بُعد آخر للفراغ و القوة الكهرومغناطيسية ما هي إلا انحناء بهذا البعد. و قام باستنتاج المعادلة التي تصف الانحناء فاستنتج معادلة أينشتاين التي تصف الجاذبية بالاضافة إلى معادلة أخرى. وعندما نظر إلى هذه المعادلة وجد أنها هي نفس المعادلة القديمة التي تصف القوة الكهرومغناطيسية، و بذلك ظن أنه اكتشف “نظرية الحقل الموحد”، و لكن نظريته ذهبت أدراج الرياح لأنها – النظرية – لم تتمكن من حساب كتلة الالكترون ولا أي من الثوابت المعروفة من التجارب.
تم شرح كيفية وجود أبعاد اضافية عام 1926م من قِبل الفيزيائي السويدي “أوسكار كلاين” حيث أشار أن الأبعاد يمكن أن تتشكل في نمطين مختلفين. هنالك أبعاد كبيرة يمكن رؤيتها، وهناك أبعاد صغيرة جدا ملتفة حول بعضها بدقة بحيث لا يمكننا رؤيتها.
ويمكن توضيح ذلك بأنه إذا كنت على متن طائرة مرتفعة عن سطح الأرض و مررت فوق بيوت سكنية فعند النظر إليها تظهر و كأنها لوح ثنائي الأبعاد لا فرق بينها و بين الأرض و لكن إذا اقتربت منها أكثر و أكثر فقد ترى الأناس الذين يسكنونها. كذلك هي فكرة الأبعاد التي لا يمكن رؤيتها.
و في عصرنا هذا ظهرت “نظرية الأوتار الفائقة” قائمة على فكرة تلك “الأوتار المهتزة من الطاقة” لتوحيد القوى. و من الغريب أنه تم احياء فكرة كلوتزه ثانيةً، واحتاج العلماء إلى أبعاد مكانية اضافية، ولكن هذه المرة ليست أربعة أبعاد مكانية و إنما عشرة أبعاد محاولة معرفة المكونات الأساسية غير القابلة للتقسيم في الكون.
وتقوم فكرتها على أساس أن البنية الأساسية هي أوتار من الطاقة تهتز بترددات مختلفة و هذه الترددات المختلفة هي التي تخلق الجسيمات الأولية فكما في حالة أوتار القيثارة حيث كل تردد يُعطي نغمة مختلفة فهنا كل تردد مختلف للوتر يعطي جسيما أوليًا مختلفًا. ونجد هنا نوعان من التوحيد، حيث الجسيمات المادية كالالكترونات و الكواركات، و الجسيمات الموجية كالفوتونات و الغرافيتونات. لها جميعا أساس واحد و هو الأوتار المهتزة. و تظهر النظرية صحيحة فقط في عشرة أبعاد مكانية و بُعد زمني واحد مما يعيدنا إلى فكرة كلونزه و كلاين القائلة بأن عالمنا يحتاج أكثر من الأبعاد التي نراها.
توضح نظرية الأوتار أن تلك الأبعاد متداخلة و معقدة بحيث أننا لا نعلم شكل عُقَّدِها فلو علمنا ذلك سنتمكن من حساب ترددات هذه الأوتار و سنتمكن من فك شيفرة الكون ولكن كيف نجد دليلا على ذلك؟.
نظرية الأوتار الفائقة
نظرية الأوتار الفائقة

حسنًا هنالك الثوابت الكونية المعروفة و المحسوبة تجريبيا بدقة متناهية مثل كتلة الالكترون و ثابت الجذب العام و كتلة البروتونات و غيرها. تُشير النظرية إلى أن قيمة تلك الثوابت مُحددة نتيجة طريقة تداخل الأبعاد الاضافية.
المشكلة التي تواجه نظرية الأوتار الفائقة هي أننا لا نعلم كيف السبيل لاختبارها تجريبيا!
ولكن قد تكون هناك طريقة وجود الأبعاد الاضافية، و الاجابة تكمن في الحدود بين سويسرا و فرنسا في مصادم الهادرونات الكبير LHC الخاص بـ”المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية سيرن “CERN. حيث يتم ارسال جسيمات و تسريعها لسرعة تقترب من سرعة الضوء في اتجاهات متعاكسة ليتصادما ولو أن لهذا التصادم طاقة كافية بحيث يقذف بعض الشظايا الناتجة عن التصادم واجبارها على الدخول إلى أبعاد أخرى سيتم التأكد من وجودها.
و لكن كيف سندرك الأمر؟
سنقوم بقياس كمية الطاقة بعد التصادم ونقارنها بكمية الطاقة قبل التصادم، فإذا كان هناك نقص في الطاقة سيكون هذا دليلا لانتقال الطاقة لبعد آخر. فلو كان هذا الانتقال مطابقا لحساباتنا، فسيكون هذا برهانا لوجود الأبعاد الاضافية.
هذه القصة كانت على درجة كبيرة من الأهمية بالعودة إلى زمن نيوتن حيث الفضاء المطلق ثم إلى أينشتاين الذي اخبرنا بأن الزمان و المكان هما شيء واحد يمكن أن ينحني وهو ما يولِّد الجاذبية والآن نظرية الأوتار الفائقة تقول نعم. الجاذبية، الميكانيك الكمومي، الكهرومغناطيسية، جميعها يمكن وضعها في حقل واحد بشرط أن يكون هنالك أبعاد اضافية.
لكن لا نعلم هل هذا آخر فصل من القصة؟! أم أن المستقبل يحمل لنا الكثير مما لم ندركه بعد؟ أو ربما نكون ما زلنا في الفصول الأولى فقط من القصة .. قصة كل شيء
الكاتب: محمد ناصر
بكالوريوس العلوم في الفيزياء ، عاشق للفيزياء و مهتم بنشر العلوم .
المصادر:
Books
A._Zimmerman_Jones_D._Robbins._String_theory_for_dummies
Videos
The Elegant Universe BBC series By BrianGreene ep1
Brian Greene TED talk Making sense of string theory

مقالات قد تهمك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

9 − واحد =

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.